الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اللطائف (نسخة منقحة)
فلما لقيه عمر قال: من أنت؟ قال: راعي غنم، وأجير قوم، وستر ذكر أويس.الأولياء تحت ستر الخمول ما يعلمهم إلا قليل، فإن عرفتهم بسيماهم فتلمح نقاء الأسرار، لا دنس الثياب {وَلا تَعدُ عَيناكَ عَنهُم}.كان في أيوب السختياني بعض الطول لستر الحال، وكان إذا تحث فرق قلبه وجاء الدمع قال: ما أشد الزكام؟! كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يجعل عند رأسه ما يأكله الأصحاء كيلا يتشبه بالشاكين. هذه والله بهرجة أصح من نقدك. للمؤمن في إخلاصه أحوال، يتصدق بيمنيه فيخفيها عن شماله. كان النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل عليه داخل غطاه.وكان ابن أبي ليلى يصلي، فإذا دخل عليه أحد نام على فراشه.قال الحسن كان الرجل تأتيه عبرته فيسترها، فإذا خشي أن تسبقه قام من المجلس. سحقت نافجة مسك المحبة فبثت في محاريب المتعبدين، وليس كل ثوب يعلق به الطيب رب قائم حظه السهر.كما من مراء يتعب في تهجده، فتفض ريح الرياء أوراق تعبده، فتبقى أغصان العمل كالسلا، وليس للشوك نسيم {فَلَو صَدَقوا اللَهَ لَكانَ خَيرا لَهُم}.إذا بهرج المنافق على عمل المخلص، فماجت أراييج النفاق، القلوب لجيفته، فذهب عمله جفاء.واعجبا من أهل الرياء! على من يبهرجون؟ {وَرَبُكَ يَعلَمُ ما تَكِنُ صُدورُهُم} غلب على المخلصين الخشوع، فجاء المرائي يبهرج، فقيل: مهلا، فالناقد بصير، لما أخذ دود القز ينسج جاء العنكبوت يتشبه، فنادى لسان الحال الفاروق:
بيننا عهد أَلستَ شجراته تسقى بمياه هل من سائل. أودعت إقرارك الحجر الأسود، وأمرتك بالحج لتستحي بالتذكر من نقض العهد. الحجر الأسود صندوق أسرار المواثيق، مستمل لما أملى، المعاهد مشتمل على حفظ العهود، فاستلم المشتمل المستملي، ليعلم أن إقرارك لا عن إكراه، إن كنت نسيتني فما نسيتك. يا محدثا في عهد بَلى ما ليس فيه تطهر من أدران الزلل، فلا بد للمحدث من طهارة: خلقتك يوم الفطرة طاهرا، ووفرت نصيبك من رش نوري عليك، فأينعت أغصان الإقرار، وهدأت حمائم الوفقا، وتدلت ثمار الوفاء، فلما تدنست بالذنب عطشت أرض الوصال، فمالت أغصان المحبة، وقحلت روضة المعاملة، فطاف على جنة العزم طائف المصارمة {فَأَصبَحَت كالصَرَيم} فنكس الآن رأس الذل طول شتاء الهجر، وابعث بريد الأسى ليبعث مزن الحزن لعلها تبكي على قاع الإفلاس، ومسكن المسكنة، فتدب المياه في عروق أغصان اللب، فتهتز العيدان في ربيع الإستدراك، فما ارتوى زرع توبة قط إلا من داودل الحدق. يا هذا: لا ضرر يلحقنا في معاصيك، إنما المراد صيانتك، ولا نفع لنا في طاعتك، إنما المقصود ربحك، فتدبر أمرك.يا قوم من غيرتنا عليكم حرمنا عليكم الفواحش.كم ندعوك وتأبى إلا الهجر، فلا العهد رعيت، ولا للتقويم استويت.
أنت تحب الإقامة، ولكن ما تحمل المفازة، في نفس الجمل غير ما في نفس السائق، ولو ترك القطا لنام.العاقل من استعد لما يجوز وقوعه كيف يغفل عما لا بد من كونه؟؟ زمن التردد قصير لا يحتمل التسويف.واعجبا لعمر لو ملئ بالزاد خيف عليه العوز، فكيف إذا تناهبته أيدي البطالة.واعجبا لمن ينشد وقد أضل نفسه، ولمن يشفق أن ينفق دراهمه وقد ضيع عمره.كان ثلاج لا معاش له سوى بيع الثلج، فبقي عنده منه شيء، لم ينفق، فجعل يقول في مناداته: ارحموا من يذوب رأسه ماله.فقرك من الخير مشوب بالكسل، ومتى كان الفقير كسلان فلا وجه للغنى، لو كانت لك أنفة من التواني لخرجت من ربقة الذل، بعت قيام الليل بفضل لقمة، شربت كأس النعاس ففاتتك رفقة {تَتَجافَى جُنُوبُهُم} امتلأت طعاما فإذا غريم الفراش يتقاضاك بدين النوم، فضرب على أذنك لا في موافقة أهل الكهف، تناولت خمر الرقاد فوقع بك صاحب الشرطة فعمل في حقك بمقتضى أنم وأرقم، فجعل حدك الحبس عن قيام الليل، فخرج على توقيع قصتك وقت الفجر {رَضوا بِأَن يَكونُوا مَعَ الخوالِف}.والله لو بعت لحظة من خلوة بنا بتعمير نوح في ملك قارون لغبنت، لا بل بما في الجنان كلها ما ربحت، ومن ذاق عرف.
خب بحر الأمانة فوقفت الملائكة على الساحل ونهضت عزيمة الآدمي لسلوك سبيل الخطر، والمحب لا يرى العواقب، ولسكران الوجد إقدام. أين مجاهدة الآدمي من تعبد الملائكة، حال الآدمي أعجب، تسبيح الملائكة يدور على ألسنتهم بالطبع، تعبدهم لا عن تعب، ورد شجرهم خال من شوك الحب، الأغلب على أوصافهم أنوثية السلامة، لا ذكورية الجهاد، سبح تسبيحهم عقود ما نظمها التكليف، ثمرات زرعهم نشأت لا عن كلف، ساقها سيح العصمة، فكثر في زكوات تبعدهم قدر الواجب {وَيَستَغفِرونَ لِمَن في الأرض} ظنت الملائكة أن أيدي العصمة أصنع من نظم التسبيح، ونسوا أن يبس الأشجار أيام الشتاء سبب لزهر النور في الربيع.
فلما عاين هولا يلين له قلب الجبان، حن إلى عوده المعجوم من الإصابة، فهو في صف الجهاد أثبت قلبا من القطب في الفلك، إن جن الليل لم تتصافح أجفانه، لا تنتظر لقيامه وقت السحر، وكيف وغلة الصادي تأبى له. كل الصحابة هاجروا سرا، وعمر خرج ظاهرا وقال للمشركين: ها أنا اخرج إلى الهجرة، فمن أراد لقائي فليلقني في بطن هذا الوادي.فليت رجالا فيك قد نذروا دمي مذ عزم عمر على طلاق الهوى أحد أهله عن زينة الدنيا، فكان بيته- وهو أمير المؤمنين- كبيت فقير من المسلمين. كان رضي الله عنه يقول: لئن عشت لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي. لما ولي عمر بن عبد العزيز سمع البكاء في داره، فقيل: ما لهم؟ قيل: إنه خير النساء والجواري قال: من شاءت فلتقم، ومن شاءت فلتذهب، فإنه قد جاء أمر شغلني عنكن. واعجبا! أين العزائم؟ إن العجز لشريك الحرمان، وإيثار الراحة يورث التعب. اغسل وجه الجد من غبار الكسل، وأنفق كيس الصبر في طريق الفضائل، إن كانت لك عزيمة فليس في لغة أولي العزم ربما وعسى.
يا مؤثرا ما يفني على ما يبقى، هذا رأي طبعك، هلا استشرت عقلك لتسمع أنصح النصائح، من كان دليله البوم كان مأواه الخراب.ويحك! شهوات الدنيا أحلام يزخر منها نوم الغفلة، ونظر الجاهل لا يتعدى سور الهوى، ولا يخرق حجاب الغفلة، فأما ذو الفهم فيرى ما وراء الستر، لاحت الشهوات لأعين الطباع فغمض عنها {الَّذَينَ يُؤمِنونَ بالغَيب} فوقع أكثر الخلق في التيه، والقوم {عَلى هُدى مِن رَبِهِم}.رحل الصالحون وفي القوم تثبط، تالله لقد علموا شرف المقصد، ولكن بعدت عليهم الشقة، واأسفا! لو عرفوا عمن انقطعوا لتقطعوا، يصبحون في جمع الحكام، ويبيتون على فراش الآثام، وينفقون في الهوى بضائع الأيام {أَُولَئِكَ الَّذَينَ اِشتَروا الضَلالَةَ بِالهُدى} سلمت إليهم أموال الأعمار فأنفقوها في ديار البطالة {فَما رَبِحَت تِجارَتُهُم} هذا والعبر تصيح {فَهَل يَنتَظِرونَ إِلا مِثلُ أَيامِ الَّذَينَ خَلَوا مِن قَبلِهِم} غير أن المسامع قد تملكها الصمم، ويحهم!! هلا تدبروا فساد رأي أمل {وَأَن عَسى أَن يكونَ قَد اِقترَبَ أَجَلُهُم} إن في الماضي للمقيم عبرة، وليس المرء من غده على ثقة، ولا العمر إذا مر يعود، وغواري الليالي في ضمان الإرتجاع، والدهر يسير بالمقيم، فاشتر نفسك والسوق قائمة والثمن موجود، ولا تسمعن حديث التسويف.
أنفوا من مزاحمة الخلق في أسواق الهوى، وقوي شوقهم فلم يحتملوا حصر الدنيا، فخرجوا إلى فضاء العز في صحراء التقوى، وضربوا مخيم المجد في ساحة الهدى، وتخيروا شواطئ أنهار الصدق، فشرعوا فيها مشارع البكاء، وانفردوا بقلقهم فساعدهم ريم الفلا، وترنمت بلابل بلبالهم في ظلام الدجى، فلو رأيت حزينهم يتقلب على جمر الغضا.فيا محصورا عنهم في حبس الجهل والمنى، إن خرجت من سجنك لترويح شجنك من غم البلاء، عرج بذلك الوادي. تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود، فجمعوا الرحل قبل الرحيل، وشمروا في سواء السبيل، فالناس يخوضون في وحل الاكتساب، وهم في ظل القناعة، ومرض الهوى يستغيثون في مارستان البلاء، وهم في قصور السلامة، وكسالى البطالة على فراش التواني وهم في حلبات السباق {يَرجونَ تِجارَةً لَن تَبور} يجرون خيل العزائم في ميادين المبادرة، ويضربون الدنيا بصولجان الأنفة، فما مضت إلا أيام حتى عبروا القنطرة، وقد سلموا من المكس. غناهم في قلوبهم {سيماهُم في وُجوهِهِم} ما ضرهم ما عزهم، أعقبهم ما سرهم، هان عليهم طول الطريق لعلمهم بشرف المقصد، وحلت لهم مرارات البلاء لتعجيل السلامة، فيا بشراهم يوم {هَذا يُومُكُم}. |